*/

الرئيسية > أراء

ضدّ الموت الفلسفي

  • الخميس 9 فبراير 2017 - 22:11

معاذ بني عامر
في رحلة بحثه عن معنى في هذا الوجود وإضفاء نوعٍ من التمايز عن بقية الكائنات الأخرى، يعمل الإنسان على تفجير “نبعين” (سأدمج الحديث الفكري بحديث أدبي، لتبسيط موضوع يمكن أن يدخل في تعقيدات كثيرة في حال تمّ التعامل معه بلغةٍ فكرية محضة) وجعل الماء يدفق من أعاليهما، لتشكيل “مصبّ عظيم”، يكون بمثابة علامة فارقة في حياته، بحيث يتحوّل مسار “ميلاده/ موته” من مسار “أوتوماتيكي” يخلو من المعنى، إلى مسار “درامي” يحتمل جدلاً بينه وبين موجودات العالَم الذي يعيش فيه.
النبع الأول: الصيرورة أو الجدل بين الإنسان وذاته
في تجلّيات النبع الأول، ثمة ماء يدفق من داخل الإنسان لإرواء تُرابه الداخلي، والدخول من ثم في عملية إخصاب جديدة من شأنها منحه ولادة جديدة في العالَم، غير تلك الولادة البيولوجية التي لم يكن له فيها شأن أو قرار. فالوعي الذي يتشكّل بإزاء عملية الإخصاب الداخلي، هو وعي ذاتي يمنح الإنسان القدرة على إضفاء نوعٍ من الفردانية على قيمته الوجودية، فهو فاعل الآن في الوجود، لا مفعول به كما هي الحال في الولادة البيولوجية.
فهو إذ يضرب منطقةً ما في الذات، تحديداً منطقة التضادّات، فإنه يعمل على التأسيس لمُنطلقه الأول في هذا العالَم، فهو كائن لا يمكن له أن يتأكّد على المستوى الوجودي إلا عبر جدلٍ قائمٍ وُمتنامٍ بين شحنتين داخليتين: واحدة سالبة وثانية موجبة، تطالهما ضربة الفأس الأول، فيتموقع الإنسان مرة واحدة وإلى الأبد الزمكاني في: “الفوق/ التحت”؛ “الأعلى/ الأسفل”؛ “الليل/ النهار”؛ “الحرّ/ البرد”؛ “الكَمْ/ الكيف”… إلخ.
يدفق أول خيط من الجدليات المُتضادّة من أعماق الذات، ليصعد إلى أعالي الرأس، فيتأكّد الإنسان ككيانٍ صيروري (لِمَنْ يجد صعوبة في فهم هكذا مفردات يمكنه إرجاعها إلى جذرها اللغوي وسيجد سهولة في التعامل معها) لن يكون له معنى في هذا العالَم إلا إذا فكّر بالمتضادات جنباً إلى جنب، فهو غير قارّ على وضعٍ عقلي دون الوضع الآخر، لانسجام ذلك مع طبيعته التكوينية التي لا يمكن لها أن تستقر أو تركن إلى ماءٍ بعينه، لأن في الركون موت وتفسّخ واندثار؛ إذ تأسن المياه في الداخل وتتعفّن، ويصبح وجود الإنسان وعدمه واحدا، إذ تقلّ نسبة الأوكسجين الحياتي وتكثر نسبة ثاني أوكسيد الكربون العَدَمي.
النبع الثاني: السيرورة أو الجدل بين الإنسان والعالَم
كتجلٍّ للنبع الأول، يدفق الإنسان في العالَم، ويبدأ بتطبيق جدلياته الداخلية بإزاء العالَم الذي يعيش فيه، لكي لا يقرّ على وضعٍ وحيد يُحيله إلى أيقونة مُتفحّمة لا مظهر لها ولا جوهر.
في البدء “يصير” على المستوى الداخلي، وكتجلٍّ لذاك البدء الذي يمنحه ولادةً عظيمة على مستوى الوعي بقدرته كإنسانٍ فاعل على المستوى الحضاري، لا كإنسانٍ مفعول به على المستوى البيولوجي، يبدأ “يسير” على المستوى الخارجي.
يُؤسَّس للمعمار الوجودي في داخل الإنسان، ثم تُستكمل عمليات البناء في الخارج. يوضع حجر الأساس في الداخل، ثم يتعاظم المعمار في الخارج؛ فيتحوّل الإنسان إلى سياق نشطٍ حضارياً.
يتشكّلُ –بدءاً- في أصلاب رجال وأرحام نساء قبله، إلى أن يستقرّ أخيراً في رَحِم أمه. يدبّ على الأرض طفلاً صغيراً، ثم يبدأ بالسير في الزمن والمكان، مأخوذاً بما أسَّس له الإنسان المُطلق في الداخل، فهو إذ يرث ناموس الجدليات الداخلي، ويعمل على تطبيقه على أرض الواقع، فإنه يُعلي من شأن القيمة الوجودية للإنسان الذي يخوض جدلاً دائماً ومُتنامياً مع العالَم، دونما استقرار نهائي على حال أخيرة.
المصبّ العظيم أو الكينونة
إذ يدفق ماء “الصيرورة” من الداخل، ويندمج مع ماء “السيرورة” في الخارج، فيترقرق الماء عذباً طرياً في إنسان شغوف بجدلٍ مزدوج؛ مرةً مع ذاته تجعله “يصير” دونما كينونة نهائية، وأخرى مع عالمه تجعله “يسير” من غير انتهاء، يتشكّل مصبّ عظيم، يمنحه قدرة على أن “يكون”، لكن من دون ثبات أو يقين، فالصيرورة غير القارّة في نظام ثابت، والسيرورة من غير توقّف أو ثبات، تمنحه بصمة “الكينونة” المُتحرّكة لا “الكينونة” الثابتة؛ “الكينونة” المُتعدّدة لا “الكينونة” الأحادية، فهو إذ يتأكّد كمصبّ عظيم، فإنه يشرب من ماء عذب فرات، لكن من دون ارتواء، لكي لا تتوقّف قدرته على اجتراح الإبداعي، وإبقاء عِرق الماء سيالاً في نبعيه الأصليين، فهو “صائر” في “سيرورة” تُفضي إلى “كينونة” قلقة، لن يكتب لها قرار واستقرار إلا إذا مات الإنسان المُطْلَق، اللانهائي، على الإطلاق، وانعدم وجوده في هذا العالم.

عبر عن رأيك

الآن تيفي

المزيد


استفثاء

ما هي نوعية المواضيع االتي تفضلون قرائتها على موقعكم شيشاوة الآن

التصويت انظر النتائج

جاري التحميل ... جاري التحميل ...