*/

الرئيسية > أراء

زواج المال والسياسة في المغرب

  • الإثنين 3 أغسطس 2015 - 00:38

مولاي التهامي بهطاط
قبل حوالي شهر عرضت قناة “فرانس 5″ شريطا وثائقيا حمل عنوان “برلسكوني: الملك سيلفيو”، رصد تاريخ هذه الشخصية المثيرة للجدل.
الشريط لم يحاول أن يصدر حكما في حق الرجل الذي تعددت معاركه السياسية والقضائية والإعلامية، بل ترك الأمر مفتوحا للمشاهد لكي يضع برلسكوني في الخانة المناسبة : شخصية عصامية متميزة، أم مغامر دخل السياسة بمنطق التجارة..؟..
وفي نفس السياق، كشف محققون مؤخرا تفاصيل مكالمة هاتفية سجلت سرا، قال فيها برلسكوني ضمن ما قاله، “يمكنه ما لتنص تعلى مكالماتي الهاتفية.. لايهمني هذا الهراء.. سأغادر كي أواصل عملي الخاص من مكان آخر،.. سأغادرهذه الدولة القذرة.. التي سببت لي المرض.”
ويبدو أن هذه الكلمات تختزل كل شيء، بعدما هوى الرجل الذي شغل الناس ليس في إيطاليا وحدها بل في أوروبا والعالم، وأصبح اليوم -بموجب حكم قضائي- مجبرا على خدمة العجزة في دار المسنين كعقوبة بديلة عن الحبس..
باختصار شديد، يقدم برلسكوني صورة عملية للنظرية التي تقول “إن القوة الاقتصادية لابد أن تعبر عن نفسها سياسيا”.
لكن لابد من الاعتراف بأنه دخل السياسة من بابها الواسع، ولم يتسلق على الجدران ولم يتسلل من النوافذ، بل أحاط نفسه بمجموعة من المستشارين الأكفاء الذين حسبوا له بدقة متناهية كل الخطوات، خاصة بعدما أصبح على رأس أمبراطورية إعلامية وحقق شهرة واسعة عن طريق رئاسته لنادي ميلان لكرة القدم…حتى وإن كانت النهاية غير سعيدة..
مثال برلسكوني يتكرر كل يوم، وفي كل مكان من العالم، حتى في أعرق الديموقراطيات، لكن الفرق الوحيد هو في الأسلوب الذي يتزاوج فيه المال بالسياسة.
فهناك من يدخل الساحة مباشرة بوجه مكشوف، وهناك من يتحرك في الكواليس ويدافع عن مصالحه باستعمال سياسيين محترفين..
وهذا التمهيد كان ضروريا قبل الانتقال للحديث عن علاقة المال بالسياسة في المغرب..
لكن لنوضح أولا أن المقصود هنا ليس “المخزن الاقتصادي”، فذلك كيان متشابك ومعقد لا يتسع المجال هنا للتفصيل في شأنه، اللهم في الجانب المتعلق بصناعة الثروة في هذا البلد.
فلا داعي للتذكير هنا بأن تحصيل الثروة في المغرب نادرا ما كان اعتمادا على الاجتهاد والقدرات الشخصية، أو حتى رهانا على “حظ سعيد” قد تجري رياحه وفق ما تشتهيه قوارب الباحثين عن الثراء.
فالمغرب ليس من دول الخليج، التي وجدت نفسها فوق أنهار جارية من الدولار، وبالتالي أمكن لبعض “التجار” الصغار أن يصبحوا على رأس مجموعات عملاقة بأذرع أخطبوطية..خاصة منه المقربين من دوائر صناعة القرار..
والمغرب ليس أمريكا أو أية دولة من الدول الليبرالية التي يمكن فيها لمبدإ “حرية المبادرة” أن ينقل مستثمرا صغيرا من القعر إلى القمة في وقت قياسي.. كما حدث مع بيل غيتس صاحب ميكروسوفت وماركزوكربيرج مخترع الفيس بوك..
نحن في المغرب نعلم جيدا أن المدخل للثروة له بابان فقط : إما التهريب بمفهومه الواسع، أو المال العام بمفهومه الواسع أيضا..
صحيح أن هناك أسماء قليلة جنت ثرواتها اعتماد على الجهد الشخصي، أو توارثت المال جيلا بعد جيل، لكنها حالات نادرة، والنادر لا حكم له كما يقول الفقهاء.. ولهذا هناك في المغرب ولادات مستمرة ومفاجأة لمليارديرات عادة ما يكشفون عن أنفسهم من باب “التطاول في البنيان”، عبر سيارات فارهة، وإقامات راقية.. وبذخ غير مبرر، ومظاهر التبرجز التي غالبا ما تكون مستفزة للمواطنين الكادحين منهم..وغير الكادحين..
والأكثر استفزازا هو عندما يشتغل بعض هؤلاء بـ”السياسة” بنفس الطريقة الفجة التي يمارسون بها التجارة وإدارة المقاهي، وبنفس الشكل الذي يحتفلون به بأعراسهم وأفراحهم..
لا يحتاج الأمر إلى تحليل طويل للوقوف على أن الثروة في المغرب لا تحتاج إلى تحقيقها لا إلى العلم ولا إلى روح المغامرة ولا إلى الخبرة ولا إلى الاجتهاد، ولا إلى ضربة حظ..بل قد تحتاج فقط إلى “الرضى” أو إلى حسن “اختيار الطريق الأسرع والأقصر”..
وأظن أن في كل مدينة وقرية قصصا تروى عن أشخاص انطلقوا من لا شيء وراكموا ثروات هائلة، ولا يستطيع أحد منهم أن يكشف عن مصدرها، بل لا يستطيع أن يجيب حتى على طريقة الملياردير الأمريكي الذي رد على من سأله : من أين لك هذا؟ قائلا : لا تسألوني عن المليون الأول، واسألوا عما شئتم بعد ذلك.. وهل نكشف سرا إذا قلنا إن المغرب هو إحدى أكبر أسواق تبييض الأموال المتحصلة من أنشطة محرمة…لا داعي حتى للإشارة إليها..
بل يكفي أن نستحضر عدد “الموظفين” الذين انتقلوا فجأة من حرب “تدوير أواخر الشهور”، إلى حياة البذخ، وعدد المستخدمين في مؤسسات عمومية (عقارية على وجه التحديد) الذين تحولوا إلى أباطرة يبتلعون كل من يقف في طريقهم تحت مسمى “المنعشين”.. وهذا وحده ملف يحتاج إلى أطنان من الورق لتتبع تفاصيله، خاصة حين نستحضر أن كثيرا من الأسماء اللامعة اليوم في قطاع العقار بمستوياته المختلفة، مرت عبر مكاتب المؤسسات التي أصبحت اندمجت اليوم في المجموعة التي تحمل اسم “العمران”، فهناك راكموا “الخميرة” التي استطاع كل منهم عبرها تأسيس “هولدينغ” تحقق أرباحا خيالية كل سنة.. خاصة وأنه في الوقت الذي يتباكى فيه الجميع على تدهور القدرة الشرائية للمواطن، لا نسمع أن شركة عقارية عجزت عن بيع ما بنته سواء كان ضمن خانة السكن الاجتماعي، أو في مستوى السكن الراقي..
وبالعودة إلى المحور الأساسي، أي زواج المال بالسياسة، نجد أنفسنا أمام سيناريوهات مختلفة..
فهناك أثرياء يقف طموحهم عند المستوى المحلي، حيث يبذلون الغالي والنفيس من أجل الحصول على رئاسة جماعة أو مجلس محلي أو حتى عضوية من شأنها أن تفتح أمامهم المسالك من أجل “قضاء أغراضهم” خاصة في ما يخص الحصول على الرخص بمختلف أنواعها، والاستفادة من بركات لجان الاستثناء ومن تعديل التصميم المديري وتوسيع المدار الحضري..
وهناك حيتان أكبر تراهن على عضوية المجالس الأكبر لأنها تريد فتح قنوات مع الوزراء والمدراء العامين وغيرهم من أصحاب المقامات العالية الذي يقفون حراسا على خزائن “علي بابا”..
لكن مقابل هؤلاء وأولئك، هناك فئة ثالثة ربما أكثر غنى وأفحش ثراء..وهذه لا يهمها من “الاشتغال” بالسياسة سوى العائد الإعلامي..
وهنا مثلا يمكن أن نتساءل : هل يمكن للرأسمالي أن يكون يساريا؟
هذا ممكن في المغرب طبعا، ولنستحضر مثلا كيف أن الأحياء الراقية في كثير من المدن الكبرى كانت تصوت في أغلبيتها لصالح الاتحاد الاشتراكي أيام كانت له “نزوعات” نحو “القوات الشعبية”..
فهؤلاء البورجوازيون كانوا يصوتون لصالح الحزب الذي يرفع شعار محاسبتهم على ما تحت أيديهم، ليس من باب “خالف تعرف”، ولكن من باب “أكل الغلة وسب الملة”، وربما من باب السخرية من السياسة والسياسيين والأحزاب والمتحزبين.. ولا عجب إن دار التاريخ دورته، وانتقل عدد من الاتحاديين لمجاورة “أعداء” الأمس بالإقامة في نفس الأحياء.. بل حتى إسما المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد تم ترحيلهما إلى الأحياء الراقية بالعاصمة رغم أنهما صنعا مجدهما في أحياء الرباط الشعبية التي كانت شوارعها القذرة والكادحة أولى بهما..لو كان هناك إنصاف فعلي ومصالحة حقيقية..
وليس غريبا أن يكون ضمن هذه الفئة أسماء تتبنى خطابا جذريا، مع أن المفروض أن مصلحتها في الاستقرار على الأقل، إن لم أقل في بقاء الوضع على ما هو عليه..
لقد تابعنا جميعا، كيف أن رجل أعمال شهيرا أصبح أكثر شهرة في السنوات الأخيرة، بسبب مواقفه المثيرة للجدل.. ربما أخطأ الحساب حين راهن على حركة 20 فبراير وصدق أنه بإمكانها إن تطيح بالنظام، فأراد أن يحجز لنفسه مقعدا في المستقبل..وعندما لم تتحقق هذه “المعجزة” أعلن أن يساريته لم تمنعه من إعطاء صوته لحزب العدالة والتنمية “الظلامي” الذي فاز بشكل مفاجئ بالانتخابات التشريعية..
هذا الملياردير حين يتحدث أحيانا، يوحي للمستمع بأنه على وشك إعلان “الجمهورية”، أو أنه يجر خلفه مئات الآلاف من الأنصار والأتباع، الذين يطيعونه طاعة عمياء.. كما لو أنه وليد جنلاط أو حسن نصر الله ..ولهذا يمن في كل مناسبة بأنه صوت لفائدة الحزب “الحاكم”..وكأن موقفه خلال الحملة الانتخابية هو الذي تحكم في مجريات الأمور..
الإشكالية الحقيقية مع هذه الفئة من مليارديرات السياسة، أنها تعيش حالة انفصال على الواقع، فمن جهة تعيش حياتها ضمن خانة “الباطرونا”، وفي نفس الوقت تريد أن تجد لنفسها مكانا في “ثورة” محتملة حتى لو كانت في فنجان..
هذا لا يعني أن الثراء لا يمكن أن يتعايش مع المبادئ، فقد رأينا كيف أن بيل غيتس تبرع بنصف ثروته أي حوالي 28 مليار دولار للأعمال الخيرية، كما تبرع ماركزوكربيرج بـ 18 مليون سهم من حصته في شركة فيس بوك لنفس الغاية، بينما يتبرع مليارديراتنا “المتياسرون” بالكلام فقط..
لقد سمعت من أحد قدماء اليساريين قصة تستحق أن تذكر بالمناسبة..فقد كان ضمن شلة ثورية في سبعينيات القرن الماضي، إقطاعي يتبنى نفس الأفكار الجذرية ..وحين كان “رفاقه” يسخرون منه بأن مكانه ليس بينهم وبأن ثروة عائلته تتناقض مع أفكاره الاشتراكية، كان يرد عليهم ببساطة..اهتموا أنتم فقط بـ”الثورة”، وحين تنجحون.. سأكون أنا أول من يُخضع ثروته لـ”التأميم”..
ولأن “الثورة” لم تنجح كما كان متوقعا، فإن صاحبنا جمع بين الفضيلتين.. فضيلة النضال إلى جانب “البروليتاريا”.. وفضيلةالانتماء للرأسمالية..

عبر عن رأيك

الآن تيفي

المزيد


استفثاء

ما هي نوعية المواضيع االتي تفضلون قرائتها على موقعكم شيشاوة الآن

التصويت انظر النتائج

جاري التحميل ... جاري التحميل ...