*/

الرئيسية > أراء

الكيمياء الحزبية

  • الثلاثاء 7 فبراير 2017 - 16:28

الطيب‭ ‬بياض‭ ‬
عرف المشهد الحزبي في المغرب خلال الآونة الأخيرة تفاعلات غير مسبوقة، عكست نوعية المواد المشكلة له، وطرق تركيبها وآليات اشتغالها. فعكس مقولة «التجزؤ فينا جزاء»، وكشف المستور في تفسير بعض أسباب العزوف والنفور من الانخراط في الحياة السياسية، أو على الأقل في المشاركة في العملية الانتخابية كإحدى تجلياتها. فسرى التصدع داخل الأحزاب، وانتقل السجال بينها، بل وحتى داخلها، من لغة البرامج والمشاريع المجتمعية إلى كيل الشتائم وإلصاق التهم والقذف والنبش في الأعراض، وعمتها لغة «أرض لله الواسعة»، فتحولت الشقوق إلى مفازات في التباعد، وهيمن الشيوخ، واشرأبت أعناق الشباب للزعامة، وجرى اختزال السياسية في فن المناورة والإيقاع بالخصوم والحفاظ على الكراسي.
على إيقاع الاستعدادات الجارية لتنظيم الانتخابات الجماعية، تزايدت حدة التنابز بالألقاب، وعوض الذهاب إلى حوار هادئ كفيل بتنزيل سليم ومنتج للدستور برسم هذا الاستحقاق، جرى تبادل التهم، وطلب التحكيم، في إشارة إلى انسداد الأفق، وتعطُّل لغة الحوار. في وقت تعتمل فيه داخل هذه الأحزاب ديناميات التصدع والانشقاق، مع ما يستتبعها من وصول هزاتها الارتدادية إلى الحقل النقابي، الذي صار بدوره غارقا في وحل التفرقة، مما أضعفه بفعل تشرذمه.
يطرح سؤال الصراع داخل/ وبين الأحزاب، بتزامن مع سؤال الديمقراطية الداخلية، والطموح المشروع في الوصول للزعامة وتداول المناصب، واستبطان ثقافة الاختلاف في زمن الانتقال من الزاوية والقبيلة والرعية إلى الحزب والمؤسسة والمواطنة. فهل فعلا جرى القطع مع الأولى قيما وثقافة وممارسة، لفائدة أداء حزبي عصري بروح حداثية، يعي دور الفاعل السياسي ومهامه، والأهم من ذلك رسالته المجتمعية؟
بدأت بوادر الفعل السياسي المنتج في المغرب تتشكل بشكل جنيني مع جماعة «لسان المغرب»، وطموحها الدستوري، الذي استشرف الأفق بعيدا عن برغماتية السلطان عبد العزيز ومحافظة السلطان عبد الحفيظ، لكن قُدر لها، كتوجه وخيار، أن تظل معزولة على الهامش. ومع دخول الاستعمار، وبعد فترة مقاومة في البوادي، آن للحواضر أن تنشط سياسيا، فظهرت الأحزاب في بيئة الطرقية والصوفية والزوايا والتعليم التقليدي، غير محمولة فلسفيا بتأطير نظري ومفاهيمي مستوعب للتراكم الحاصل من المدينة الفاضلة حتى العقد الاجتماعي، وغير مسبوقة بثقافة سياسية محلية ولا بفكر سياسي ينشط في المنتديات. فوقع الاصطدام شمالا وجنوبا؛ بين عبد الخالق الطريس والمكي الناصري في المنطقة الخليفية، وعلال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني في المنطقة السلطانية، ومن مكر التاريخ أن حدث الأمر في السنة نفسها (1937)، مما أشر على ولادة غير سليمة للمؤسسة الحزبية. بعد حصول المغرب على الاستقلال، راجت فكرة القضاء على نظام الحزب الواحد، رغم أنه في الواقع كان هناك أكثر من حزب، وأكثر من توجه فكري وإيديولوجي، بل حضر أيضا الهاجس الإثني في تأثيث المشهد الحزبي لبداية الاستقلال. فحصل التصدع في «الحزب العتيد»، واستتبع ذلك انشطار نقابي موجع. وظهر الفديك، بمبرر التعددية الحزبية، التي كانت واقعا معاشا، وإن بشكل متشنج، عكَس الطموحات والانتظارات. هذه «البروفا» الثلاثية المشاهد: الانشقاق، والتصدع النقابي المرافق له، والولادة الفجائية لأحزاب جديدة، شكلت منذ نهاية الخمسينات وبداية الستينات النموذج الذي استُنسخ لاحقا، خاصة منذ أواسط السبعينات. فكانت بذلك الميسم العام الذي وسم الكيمياء الحزبية المغربية، في تفاعلها المفضي إلى التفريخ الحزبي والنقابي، في زمن الإلحاقية الشبيبية والنقابية والنسائية، وحتى الحقوقية أحيانا. فصار لكل حزب قطاعاته أو ملحقاته، التي عليها تطبيق خارطة الطريق الحزبية في مختلف حقول انتمائها. فعم التكلس والشلل الفكري مختلف الأحزاب، وما يدور في فلكها من قطاعات، وتعطلت آلية إنتاج الأفكار. فكانت مؤتمراتها ومنابرها الإعلامية خير مرآة عاكسة لهذا الواقع، بعد أن توارى منطق التقاط الظرفية للتقييم وتصحيح المسار، وتمرير المواقف من أعلى سلطة تقريرية داخل الأحزاب، لصالح منطق الحسابات الكفيلة بتأبيد الزعامة، وإعادة انتخابها. وتراجع الدور التثقيفي والتنويري للجرائد الحزبية لفائدة صفحات تغطي أنشطة وأخبار الزعيم، وتشهر بخصومه داخل الحزب وخارجه.
ماذا يعني هذا العدد من الأحزاب والنقابات؟ ما هو عنصر التميز بينها؟ أي قيمة مضافة جاء بها اللاحق على السابق؟ ما وجه الاختلاف بين برامجها في شقها القابل فعلا للإنجاز إن قدر لها أن تفوز وتشارك في تدبير الشأن العام؟ أليس ما يطال الحياة الحزبية مجرد تجل لما تشهده منظومة القيم؟ ليس غريبا أن يرمقها المواطن بعين الريبة، وأن لا تثير لديه شهية الانخراط، بعد أن استغنت عن خيار دعم أصحاب الرأسمال الرمزي المنتجين للأفكار، لصالح ذوي الجاه الضامنين لفوز انتخابي يوسع الكتلة المنتخبة، وأعفت نفسها من احتضان التيارات الفكرية المتصارعة داخلها، لفائدة إشهار الورقة الحمراء في وجه المعارضين، وجنت على الشغيلة بتفتيت مركزياتها النقابية. فأفلت شمس العمل السياسي المرتبط بالمعاناة والصعوبة والتعقيد، الحاضن للمناظرات السياسية والسجال الفكري والوضوح الإيديولوجي، بعد أن بزغ نجم الاستسهال في الممارسة والخطاب، مما أنتج المزايدات والشعبوية وتبادل التهم. لذلك، وجب الاختيار بين الصعب المنتج والسهل المفلس، حتى لا تخطئ الأحزاب موعدها مع التاريخ، خاصة وأنها على موعد مع استحقاق انتخابي قريب، ومع رهان كبير وبعيد المدى للتأطير في زمن نوستالجيا عهد الخلافة.

اقرا أيضا

عبر عن رأيك

الآن تيفي

المزيد


استفثاء

ما هي نوعية المواضيع االتي تفضلون قرائتها على موقعكم شيشاوة الآن

التصويت انظر النتائج

جاري التحميل ... جاري التحميل ...