*/

الرئيسية > أراء

لن أشارك في المسرحية..

  • الجمعة 21 ديسمبر 2018 - 09:06

سليمان الريسوني
أول أمس الاثنين، وقف الشاب ربيع الأبلق في ثاني جلسات استئناف محاكمة معتقلي حراك الريف، وعندما سأله القاضي عن هويته، أجاب: «اسمح لي.. أنا أرفض أن أشارك في هذه المسرحية. لقد قلت كلاما أمام قاضي التحقيق وأمام قاضي الحكم في المرحلة الابتدائية، لكنني عندما قرأت تعليل الحكم الصادر في حقي، لم أجد سوى ما كان قد جرى تضمينه في محاضر البوليس. لأجل ذلك، فإنني لا أجد أي قيمة لما سأقوله أمام محكمتكم، وأكرر رفضي المشاركة في هذه المسرحية».

هل في ما قاله ربيع تبخيس وتنقيص للمحكمة؟ نعم. لكن، ماذا عساه يقول شاب في مقتبل العمر خرج يطالب بالحرية، ليجد نفسه محروما منها لخمس سنوات، وبالكرامة ليجد نفسه عرضة للتعذيب، حسب تقرير «الزغبي» إدريس اليزمي، وبالعدالة الاجتماعية ليجد نفسه يأكل «البيضانسي» في عكاشة، فيما أقرانه من السترات الصفراء يشعلون أشهر شارع في التاريخ (les Champs-Elysées)، ثم يلتقطون الصور الرومانسية مع صديقاتهم قرب قوس النصر، وفي المساء يعودون إلى منازلهم ليستمعوا إلى رئيس الدولة وهو يقول لهم: «لقد فهمتكم، وأنا مستعد لتحقيق مطالبكم»؟

ماذا عساه ربيع الأبلق يقول، وهو يرى من ضُبطوا من أقرانه الفرنسيين، متلبسين بتحطيم واجهات الأبناك وإحراق سيارات الشرطة وتعنيف رجال الأمن، يحكم عليهم ببضعة أشهر، فيما رفاقه الذين كانوا يحرصون على سلمية احتجاجات الريف، حرصهم على عيونهم، ينقلون بالهليكوبترات من الحسيمة إلى الدار البيضاء، ويُصَور زعيمهم بطريقة مهينة، وتوزع صوره شبه عار على صحافة التشهير، وعندما تستمر الاحتجاجات بعد اعتقال رموز الحراك، يأتيهم «شناقة» في صفة حقوقيين، ليوزعوا عليهم القبل ووعود العفو مقابل التهدئة، لكن ما إن يُخمد الغضب الريفي، حتى تتبخر الوعود، ثم يحكم عليهم بعقوبات وصلت إلى 20 سنة سجنا، ولا يظهر لـ«الشناقة» وجود في السجن أو على صفحات الجرائد التي كانت تضج بهم وبوعودهم. فماذا عساه يقول ربيع للقاضي؟

وفي الوقت الذي ينتقد فيه الجميع، بمن في ذلك وزير العدل، السياسة العقابية في المغرب، ويدعون إلى تبني سياسة بديلة، لا يتساءل أحد: لماذا فاتورة الأحكام الصادرة في المحاكمات السياسية، دائما، مرتفعة لدينا، ليس مقارنة بفرنسا، كعبتنا التشريعية، فحسب، بل حتى بجيراننا وأندادنا في تونس؟ فعندما وزع القضاء المغربي في السبعينيات أحكاما قاسية وغريبة بالسجن المؤبد و30 سنة + سنتين، على رفاق إدريس بنزكري، لم تتجاوز الأحكام الصادرة في حق حمة الهمامي ورفاقه في «منظمة آفاق العامل» اليسارية التونسية، ثماني سنوات.

كما أن المغرب يحوز رقما قياسيا، غير مسبوق في التاريخ، وأقصد الحكم بمنع الصحافي علي المرابط من الكتابة 10 سنوات، مرورا بالحكم على حميد المهدوي بثلاث سنوات لأنه لم يبلغ عن شخص معتوه قال له في الهاتف إنه سيدخل دبابة إلى المغرب، مع أن الصحافيين لو تفرغوا لإبلاغ النيابة العامة بكل المكالمات التي ترد عليهم من أشخاص متذمرين أو مضطربين يهددون بإسقاط الدولة، لما كتبوا حرفا واحدا. وانتهاء بالحكم الصادم بـ12 سنة على توفيق بوعشرين، رغم انكشاف المسرحية –بتعبير ربيع الأبلق- وخروج الكثير من الممثلات عن النص الذي جرى تلقينهن إياه، فيما طارق رمضان، الذي لم تتراجع أي من النساء اللواتي اتهمنه بالاغتصاب عن تصريحاتهن، يُتابَع في حالة سراح، والأمر نفسه يقال عن المغني سعد المجرد.

لقد شاهد الجميع كيف أن دعاوى مماثلة رفعت على صحافيين في المغرب وفي إسبانيا، فحكمت المحاكم الإسبانية ببراءة الصحافي الإسباني، وأدانت نظيراتها لدينا الصحافي المغربي بغرامة مالية ثقيلة، أو بقيت تجرجره لسنوات بين المحاكم بتهمة لا يصدقها حتى من وضعها.

والآن، ها هو ربيع الأبلق يرى كيف أن القضاء كان رحيما بأقرانه من التنانين الفرنسية، ولسان حاله يقول للقاضي: سيدي، حتى إذا لم أشك في استقلاليتك، فإنني أشك في عدالة عدالتك، وأشك في عدالة سلطتك التقديرية، لذلك، لا طائل في الحديث أمام محكمتك، طالما أنني لست متأكدا من أنها ستستمع إلى كلامي وتجعل منه أحد عناصر قناعتها.

إنني، شخصيا، وبصدق، أتعاطف مع القاضي رئيس غرفة الجنايات الاستئنافية بالدار البيضاء، مرتين. مرة لأن محكمته أصبحت في نظر شاب صغير مجرد خشبة تجري فوقها مسرحية يتوقع، من الآن، نهايتها التراجيدية.

ومرة أتعاطف معه، لأنه، وهو الآن في موقع سلطة، يعرف أن التاريخ سيذكر الماثلين أمامه كأبطال، وسيخلد أسماءهم في الشوارع والساحات والمدارس…

فمَن يذكر اليوم القاضي أحمد أفزاز غير معتقلي اليسار السبعيني الذين نسوا اسمه ولم يعودوا يذكرون سوى أنهم صرخوا في وجهه أثناء المحاكمة: «أنت فاشي.. أنت نازي»، فيما يذكر التاريخ الشعبي والرسمي إدريس بنزكري بأنه كـ«الأشجار تموت واقفة»، هكذا قال الملك محمد السادس في رسالة تعزيته.

ختاما، ما قيمة المؤسسات الدستورية إذا لم يعد يثق فيها أحد، ولم تعد تؤدي أدوارها ووظائفها؟ لن يبقى لها، حينئذ، أي دور خارج «مسرحة السلطة» (La dramatisation du pouvoir)، كما يطرحها الأنثربولوجي الفرنسي جورج بالونديي في كتابه «Le pouvoir sur scènes»، وتتحول المحكمة والبرلمان والحكومة.. إلى مجرد مسارح لا تصلح حتى للفرجة.

عبر عن رأيك

الآن تيفي

المزيد


استفثاء

ما هي نوعية المواضيع االتي تفضلون قرائتها على موقعكم شيشاوة الآن

التصويت انظر النتائج

جاري التحميل ... جاري التحميل ...