*/

الرئيسية > أخبار المغرب

اليوسفي يبوح أخيرا بأسراره

  • الجمعة 2 مارس 2018 - 20:01

ظل عبد الرحمان اليوسفي محجما عن البوح منذ اعتزاله السياسية في 2003. ها هو اليوم يقطع صمته بمناسبة صدور مذكراته. في ما يلي مقتطفات مختارة من الجزء الأول لشهادته على تاريخ بلادنا الراهن.

يعرض عبد الرحمان اليوسفي في مذكراته، الموسومة بـ”أحاديث في ما جرى”، شذرات من سيرته كما رواها لصديقه مبارك بودرقة (عباس). كان بودرقة عضوا في اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وعاش في المنفى منذ لجوئه إلى الخارج سنة 1973 على خلفية الأحداث المرتبطة بالتنظيم السري الموازي للحزب آنئذ. وقد استطاع الأخير إقناع اليوسفي بالإفراج عن هذه الشذرات بمناسبة مبادرته تجميع الخطب والرسائل والحوارات التي راكمها الرجل طيلة مساره السياسي على مدى عقود. وتشمل هذه الشذرات محطات من سيرة اليوسفي الشخصية، وسيرته السياسية الممتدة منذ أربعينات القرن الماضي إلى اعتزاله السياسة سنة 2003. كما تتضمن معلومات، بعضها نادر، وإضاءات جديدة على مرحلة المقاومة وجيش التحرير، ثم مرحلة الصراع بين القصر والحركة الوطنية إلى غاية عودة التوافق أواخر عهد الملك الراحل الحسن الثاني. في ما يلي مقتطفات منها مع الإشارة إلى أن العناوين من اقتراح المجلة.

1954. «الثورة ليست لعب الدراري»!
«بعد نفي محمد بن يوسف وعائلته، يوم 20 غشت 1953، قررت الخلايا الأولى للمقاومة الرد على عملية النفي بالعنف، وأصبح من الضروري التوفر، في مختلف أنحاء المغرب، على العتاد والأسلحة لمواجهة سلطات الاحتلال. هكذا، تطور عملنا، وأصبح بإمكاننا إرسال برقيات مشفرة، عجزت سلطات الاحتلال عن التعرف على محتوياتها وفك شفراتها. ولقد كان من حسن حظنا، أن السلطات الفرنسية لم تتشاور مع السلطات الإسبانية التي تحتل شمال المغرب وصحراءه الجنوبية عندما قررت نفي الملك محمد الخامس، وهو ما أشعر السلطات الإسبانية بالإهانة، جراء عدم إخبارها مسبقا بما أقدمت عليه فرنسا. فكان أن فجر عدم التنسيق هذا تناقضا بين سلطتي الاحتلال، وهو ما استغلته المقاومة المغربية التي كانت تعمل في كل من طنجة والمناطق الشمالية، مما أمكنها من أن تجعل من شمال المغرب فضاء ومتنفسا للحركة الوطنية والمقاومة. (…) اعتقل في سنة 1954 الأخ حسن العرائشي في باريس، وعثرت السلطات الفرنسية بحوزته على العديد من الوثائق السرية، التي سهلت عليها التعرف على العديد من قادة المقاومة والحركة الوطنية ومن بينهم اسمي. فكان أن أصبحت عرضة للاعتقال، لكن تشاء الأقدار مرة أخرى التدخل للحيلولة دون ذلك. التقيت بالصدفة ذات صباح بأحد الأصدقاء الجزائريين الذي يمتهن الطب في مدينة طنجة، هو الدكتور إسعاد، وصافحته، وظل ماسكا بيدي قائلا، حرارة جسمك جد مرتفعة، وألح علي أن أرافقه إلى العيادة، وبعد الكشف بالأشعة اتضح وجود ثقبين كبيرين بالرئة اليمنى. وألح علي التوقف عن القيام بجميع الأعمال سواء الشخصية أو النضالية ومغادرة مدينة طنجة إلى تطوان ومنها إلى مدريد. وهكذا تفاديت السقوط في الاعتقال بمحض الصدفة مرة أخرى.
(…) أذكر، أيضا، أنني اغتنمت فرصة غض الاسبان الطرف عن تحركات جيش التحرير المغربي، وأثناء زيارة لي إلى لاس بالماس، بادرت إلى الاتصال بالكابتن محمد أمزيان (الذي أصبح في ما بعد مارشال بالجيش الملكي المغربي)، الذي كان مسؤولا حينها بالجيش الاسباني، وطلبت منه تقديم المساعدة والدعم لجيش التحرير المغربي، فنظر إلي مليا باستغراب وقال لي: «يا ولدي، ما زلت صغيرا، اذهب للاهتمام بدراستك، فالثورة ليست لعب الدراري». ولما استقل المغرب، التقيته مجددا فكانت نظرته مختلفة تماما».

1959. لو تفاهم المهدي وعلال…
«شهدت، في بداية الأربعينات من القرن الماضي، القاعدة التنظيمية لحزب الاستقلال تحولا نوعيا، بحيث انضم لصفوفه العمال والصناع والتجار الصغار، غير أن القيادة بقيت، تميل إلى الانغلاق على نفسها، وكان التجاوب محدودا مع الفئات القادرة على مد الحزب بالفعالية. وأذكر أن الوحيد من القيادات الحزبية الذي لم يكن ينظر إلى هذه التجربة بعين الرضا هو الزعيم علال الفاسي، عندما زارنا، في نهاية الأربعينات من القرن الماضي، بالحي المحمدي (الدار البيضاء) الذي كان يعتبر نموذجا لهذا التطور التنظيمي. عندما قررت سلطات الحماية نفي الملك الشرعي للبلاد محمد بن يوسف، تم اعتقال أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، كان هدف سلطات الحماية هو فصل الشعب عن قيادته الشرعية، وتعويضها بموالين لها، فجاءت على رأس الدولة بملك عميل هو بن عرفة وحاولت فرض عملائها لتعويض قيادة الحركة الوطنية. ومن حسن الحظ، أن القيادات الشابة والجديدة التي فرزتها التنظيمات الجديدة لحزب الاستقلال، هي التي حملت المشعل وأطلقت شرارة المقاومة. وهكذا، أصبحت القواعد الجديدة للحزب هي التي تقود حزب الاستقلال وليس القيادة المحافظة.
استمر هذا المشهد حتى بداية الاستقلال، دون أن تفطن القيادة المحافظة لضرورة تطوير المؤسسات وتجديدها، ولكن العناصر الشابة، كالمهدي بن بركة والفقيه البصري وغيرهما، حاولوا تصحيح هذا الخطأ، وبدعم معنوي من الزعيم علال الفاسي، ولكن القيادة أغلقت أمامهم أبواب اللجنة التنفيذية.
(…) وبالمناسبة، ظل يخالجني طيلة العقود المنصرمة، تفكير عميق، ذلك، أنه لو ساعدت الظروف وسمحت ليتعرف كل من الزعيم علال الفاسي والمهدي بن بركة على بعضهما البعض، ولو تمكن كل منهما من اكتشاف الآخر، من خلال الحوار والنقاش السياسي والفكري، وبواسطة العمل اليومي والنشاط التنظيمي، لما حصل يوما الانفصال داخل حزب الاستقلال. ويمكن تصور نفس الشيء، أو كان الحلم به على الصعيد الوطني، لو تمكن كل من الأمير الحسن وعلال الفاسي والمهدي بن بركة ومحمد البصري من بناء جسور التواصل في ما بينهم، والتفكير المشترك في تصور بناء مغرب ما بعد الاستقلال، لتمكن المغاربة من تفادي عديد المنعرجات التي أخرت مسيرتنا، ولعشنا مغربا آخر غير الذي نعيشه».

1960. «هذا الفقيه إما أن يعدم أو يطلق سراحه»
«خلف اعتقال قائدين للمقاومة وجيش التحرير في السنوات الأولى من الاستقلال، ممثلين في شخصي أنا وفي شخص محمد البصري، استياء عاما لدى الرأي العام الوطني والدولي. وقد امتدت هذه الاعتقالات لتشمل العديد من قادة المقاومة وجيش التحرير ومناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعيبة. وقد تأكد في ما بعد أن الهدف من هذه العملية هو تصفية جيش التحرير بالجنوب المغربي الذي بسط سيطرته على مختلف مناطق الصحراء المغربية التي كانت تخضع للاحتلال الاسباني، بل وصلت هذه الوحدات آنذاك حتى مدينة أطار شمال موريتانيا. تم الاحتفاظ بمحمد البصري في وضع اعتقال لمدة تزيد عن ستة أشهر، دون أن يقدم إلى أية محاكمة إلى أن تم إنهاء وجود جيش التحرير بالجنوب، ولم يتم إطلاق سراحه إلا بعد أن التقى عبد الرحيم بوعبيد، الذي كان نائب رئيس الحكومة ووزير المالية والاقتصاد في حكومة عبد لله إبراهيم، مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن، حيث بادره عبد الرحيم: «سمو الأمير، إلى متى سيظل الفقيه البصري قابعا في السجن لقد تجاوز اعتقاله أزيد من ستة أشهر، إذا ارتكب جرما فليقدم إلى المحاكمة، إذ ليس من العدل أن يظل رهن الاعتقال بدون أية متابعة». فأجابه ولي العهد: «سي عبد الرحيم إنك على صواب، فهذا الفقيه إما أن يعدم أو يطلق سراحه». (Il faut le fusiller ou il faut le libérer).
وبعد مرور بضعة أيام عن هذا الحوار، تم إطلاق الفقيه البصري بدون أية محاكمة. أما أنا، ونظرا لوضعي الصحي، فقد تم إطلاق سراحي بعد مضي 15 يوما من الاعتقال».

1963. «كان واضحا أن دانيال مرتبط بأجهزة استخبارات»
«تم استعمال عدد من وسائل الإثبات الأخرى، أذكر منها الاعتماد على شهادة العميل السوري عاطف دانيال، المقيم بمدينة جنيف السويسرية، هذه المدينة التي استعملت كمنطلق للرحلات الدولية، سواء عند التوجه إلى القاهرة أو نيويورك أو باكستان وغيرها من الوجهات، عوض استعمال المطارات الفرنسية، وذلك تفاديا لمراقبة الأجهزة الفرنسية. في الحقيقة، يعود الفضل في استعمالها كمنطلق للرحلات الدولية إلى الحاج أحمد بلافريج، إذ منذ سنة 1937 كان متوجها إلى سويسرا للعلاج فأصبح يتردد عليها كلما دعت الضرورة إلى ذلك.
كانت مدينة لوزان تستقبل العديد من الطلبة العرب، سوريين ومغاربة، وهناك التقينا بشكيب أرسلان، وجرت العادة أن يلتقي هؤلاء الطلبة بزعماء الحركة الوطنية المغربية كعبد الكبير الفاسي، علال الفاسي، أحمد بلافريج وكذا قادة الثورة الجزائرية في ما بعد، أحمد بن بلا، محمد بوضياف والحسين آيت أحمد.
كان من ضمن هؤلاء الطلبة السوريين عاطف دانيال الذي تربطه صلة صداقة بالعديد من الطلبة المغاربة، أذكر من بينهم مامون العلوي وعبد الوهاب العراقي، وأغلبهم أنهى دراسته وعاد إلى وطنه، إلا ذلك الشاب السوري الذي ظل مقيما في جنيف، بدون عمل رسمي، وكان واضحا للجميع أنه مرتبط بأجهزة استخباراتية. ورغم معرفتهم بهذه المعلومة، كان العديد من القادة أثناء مرورهم بسويسرا، يساعدونه ماديا. ولا يستبعد أنه زار أصدقاءه الطلبة هنا في المغرب، وحضر معهم بعض اللقاءات أو المؤتمرات التي تنظمها الأحزاب السياسية. ومن المحتمل أنه كان يمر بظروف صعبة، جعلته يتصل بالدكتور عبد الكريم الخطيب، في محاولة منه لابتزاز الدولة المغربية، مقابل معلومات، وهذا ما حصل، باعتراف الدكتور الخطيب نفسه».

1965. «فات أوان عودة المهدي»
«استقبل جلالة الملك يوم 26 أبريل 1965 قادة الأحزاب السياسية والنقابات وسلمهم مذكرة عبارة عن خطة عمل وبرنامج من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية. كنت ضمن الوفد الاتحادي برئاسة عبد الرحيم بوعبيد، بمرافقة العضوين حسن صفي الدين (الأعرج) وعبد الحميد الزموري، أخبرنا جلالة الملك عن الوضع الاقتصادي الصعب وأنه مقبل على تشكيل حكومة وحدة وطنية وحل البرلمان الحالي، لأنه ليس في المستوى. هنا أثار نقطة: «لماذا لا تقترحون شبابا مثل عبد الواحد الراضي للمشاركة في الحكومة». كما أشار إلى أنه أرسل ابن عمه مولاي علي لإقناع المهدي بن بركة بالعودة إلى المغرب، وهو يستغرب لماذا لم يعد لحد الآن. هنا تدخلت، وأخبرت صاحب الجلالة بأن لديه بعض الالتزامات الملحة تتعلق بالتحضير لمؤتمر شعوب القارات الثلاثة. وأضفت «لكن، إذا رأى جلالتكم الاستعجال بدخوله إلى المغرب، فإني على استعداد أن أسافر لأعود به في أقرب الآجال». فرد جلالة الملك «لقد فات الأوان».

1974. عمر بنجلون كاتبا أول للاتحاد الاشتراكي
«في بداية سنة 1972، بادر مجموعة من أطر اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى عقد اجتماعات تحضيرية بغاية إحياء التنظيمات الحزبية، للخروج من حالة الجمود التي هيمنت على الحياة الداخلية، طيلة السنوات الماضية. وأيضا من أجل تجديد الخط السياسي والإيديولوجي للتنظيم. (…) جاءت الأحداث التي اصطلح على تسميتها بأحداث 3 مارس 1973، أي أحداث “مولاي بوعزة” لتعصف بهذا الحلم الاتحادي. وكان رد فعل الجهاز القمعي عنيفا، بحيث ذهب ضحيته العشرات إن لم نقل المئات من المناضلين (…)
بعد هذه الاعتقالات الواسعة التي تعرض لها الاتحاديون ربيع 1973، عقد اجتماع في الجزائر العاصمة في شهر يوليوز 1973، كنت قد حضرته بمعية الفقيه البصري والعديد من الأطر الحزبية الموجودة بالخارج، وقد وعى الجميع أن هذه المرحلة تفرض علينا جميعا العمل على إنقاذ إخواننا في الداخل، والسهر على أن تكون المحاكمة عادلة عند تقديمهم لها. بعد ذلك، طرحت القضية الوطنية بخصوص استرجاع أقاليمنا الجنوبية، وفي سياقها، تم إطلاق إخواننا المختطفين، وتعبأ الجميع، حيث ساهم العديد من الاتحاديين، في إطار دعم روح الوحدة الوطنية، إلى جانب باقي المغاربة، في المسيرة الخضراء التي دعا إليها المرحوم الملك الحسن الثاني. وصلت قضية الصحراء إلى محكمة العدل الدولية “بلاهاي”، وكان من ضمن المتطوعين للدفاع عن القضية الوطنية أمام هذه المحكمة، المناضل الصلب والوطني الغيور والاتحادي الذي نال النصيب الأوفر من التعذيب والقمع، المرحوم عمر بنجلون. (…)
في هذه الأجواء، بدأ التحضير للمؤتمر الاستثنائي الاتحادي، وقد عقدت العديد من اللقاءات مع تنظيماتنا الحزبية بالخارج في الجزائر وباقي الدول الأوربية، وكان الجميع يدعم ويساند بناء حزب تقدمي اشتراكي ديمقراطي، قادر على المساهمة في بناء مغرب الغد.
كما عقدت لقاءات مع الفقيه البصري، واتفقنا على أن تصبح القيادة الجديدة التي سيفرزها المؤتمر الاستثنائي كلها من داخل البلاد للقطع مع الازدواجية السابقة، التي كانت تستغل من طرف أجهزة القمع، كذريعة لإجهاض أية محاولة لبناء حزب حداثي حقيقي في بلادنا، كما تم الاتفاق على التخلي عما عرف القيادة الجماعية وتعيين كاتب أول للحزب.
(…) جاء السي عبد الرحيم بوعبيد إلى باريس في نهاية سنة 1974، وعقدنا اجتماعا حضرته بمعية الفقيه البصري. قدم لنا عرضا مفصلا حول تطور الأعمال التحضيرية للمؤتمر الاستثنائي، وملخصا لمشاريع التقارير التي أنجزتها مختلف اللجان، وأخبرناه من جهتنا بنتائج اللقاءات التي عقدت مع مختلف التنظيمات الموجودة بالخارج، وعن قرارنا بعدم تحمل أية مسؤولية مستقبلية في قيادة الحزب للقطع مع الازدواجية السابقة.
هنا كانت المفاجأة، حيث أخبرنا أنه هو أيضا اتخذ نفس القرار، وأنه لن يترشح لمنصب الكاتب الأول، وأنه يرى أن الشخص المناسب لهذا المنصب هو عمر بنجلون. حاول إقناعنا بهذا الاختيار، وبأنه آن الأوان لنسلم جميعا المشعل للجيل الجديد الذي ضحى بالكثير ليستمر هذا الاتحاد صامدا، مضيفا أن جيلنا أعطى كل ما عنده، ويبقى أمامنا أن ندعمهم بتجربتنا وتوجيهاتنا، ونتركهم أمام مسؤولياتهم اتجاه الطاقات الشابة التي يعج بها المغرب. اتفقت والفقيه البصري، بأن رصيد وماضي وقدرات عمر بنجلون تؤهله لتحمل هذه المسؤولية، ولكن الظرف الذي يجتازه الحزب وبعد معاناة والجراح المثخنة التي تعرض لها، هو في حاجحت أكثر إلى فترة من النقاهة، ومن الناحية السياسية يبقى السي عبد الرحيم الرجل القادر على تحمل المسؤولية كمرحلة انتقالية، قبل تسليم المشعل للجيل الجديد.
(…) رغم كل هذا، ظل متمسكا بموقفه، أعدنا الكرة مرات أخرى وأكدنا له مرة أخرى على أن اختياره صائب، إلا أن الظروف غير مناسبة، لا حزبيا ولا وطنيا، ونحن على يقين أن عمر سيكون أول الرافضين، والجميع ينتظر منك هذه التضحية الضرورية.
أخيرا اتفقنا على تحمله المسؤولية لقيادة الحزب، وأن أبعث برسالة صوتية، إلى المؤتمرين في الجلسة الافتتاحية، تعبر عن رأي كل القياديين والأطر المناضلين الحزبيين في الخارج، وكذلك كان. يوم 18 دجنبر 1975، أي أقل من سنة على عقد المؤتمر الاستثنائي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وبعد مرور عشرة سنوات على تصفية المهدي بن بركة يوم 29 أكتوبر 1965، امتدت يد الغدر لاغتيال الشهيد عمر بنجلون، الذي رشحه السي عبد الرحيم بوعبيد لقيادة الاتحاد الاشتراكي».

1993. «قدرنا أن نتقاسم معا نحن المرضى عبء هذه المسؤولية»
«قررت حينئذ تقديم استقالتي من الكتابة العامة للاتحاد الاشتراكي والذهاب إلى “كان” بفرنسا، احتجاجا على كل ما جرى. رغم أن صاحب الجلالة سبق أن بعث قبل شهور من تاريخ الاستقالة بمستشاره الخاص السيد إدريس السلاوي، الذي أبلغني أن جلالته في إطار التوجهات الجديدة لرسم مستقبل البلاد بدخول القرن الواحد والعشرين، وإتمام المسلسل الديمقراطي وفتح باب التناوب أمام المعارضة لتساهم في تسيير الشأن العام. أخبرني مبعوث جلالة الملك بأنه يريدني، شخصيا لتحمل مسؤولية الوزارة الأولى وتدشين العهد الجديد، فطلبت منه أن يشكر صاحب الجلالة على هذا التوجه السليم، أما في ما يخصني شخصيا، فرجوته أن يبلغه أن وضعيتي الصحية لا تسمح لي على الإطلاق بتحمل مثل هذه المسؤولية. لكن حزبنا، كما جرت العادة، لن يتردد في تلبية أية دعوة فيها المصلحة العليا لبلادنا. وبعد فترة، جاءني نفس المبعوث، بجواب الملك: «يقول لك جلالة الملك، هو أيضا مريض، وهذا قدرنا أن نتقاسم معا نحن المرضى عبء هذه المسؤولية».

1998. «التناوب كما فهمناه وقبلناه…»
«بداية 1998، اتصل بي وزير المالية آنذاك السيد إدريس جطو، وأخبرني أن صاحب الجلالة الحسن الثاني هو الذي كلفه بلقائي، وأنه جاء بعد العرض الذي قدمه السيد جطو لجلالته حول الأوضاع الاقتصادية الراهنة للمغرب وآفاق المستقبل التي تنتظر بلادنا، وأمره جلالته أن يعرض علي نفس العرض لنناقشه معا. ولقد دام ذلك اللقاء حوالي أربع ساعات استمعت فيها إلى عرض السيد الوزير الذي ملخصه، أنه بالرغم من الصعوبات الاقتصادية، فإن المغرب يمكنه الخروج بسلام إذا اتخذ العديد من الإجراءات الضرورية للنهوض الاقتصادي والاجتماعي. كما أخبرني السيد جطو أن صاحب الجلالة، اضطر لإلغاء مسلسل التناوب الذي أطلق سنة 1994، لإيمانه بأن التناوب الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا مع من كانوا في المعارضة طيلة العقود الماضية، وبالضبط مع شخص عبد الرحمان اليوسفي. (…) استقبلني المرحوم الحسن الثاني بالقصر الملكي بالرباط، يوم الأربعاء 4 فبراير 1998 ليعينني وزيرا أول. وأكد لي قائلا: «إنني أقدر فيك كفاءتك وإخلاصك، وأعرف جيدا، منذ الاستقلال أنك لا تركض وراء المناصب بل تنفر منها باستمرار. ولكننا مقبلون جميعا على مرحلة تتطلب بذل الكثير من الجهد والعطاء من أجل الدفع ببلادنا إلى الأمام، حتى نكون مستعدين لولوج القرن الواحد والعشرين.
(…) طلب مني صاحب الجلالة أن آخذ الوقت الكافي لتشكيل الحكومة وعبر لي عن استعداده للقاء معي كلما دعت الضرورة إلى ذلك. وقبل وداعه ونحن واقفان في مكتبه، اقترح علي جلالته أن نلتزم معا أمام القرآن الكريم الموجود على مكتبه، «على أن نعمل معا لمصلحة البلاد وأن نقدم الدعم لبعضنا البعض»، وتلا هذه العبارات ورددتها بعده، وكان هذا القسم بمثابة عهد التزمنا به لخدمة البلاد والعباد، بكل تفان وإخلاص. (…) هكذا، فالتناوب كما فهمناه وقبلنا تحمل المسؤولية الحكومية في إطاره ومن أجل إنجازه هو التناوب بين وضعيتين، وضعية الأربعين سنة السابقة له، ووضعية بديلة يتم بناؤها بدعم من الملك ودعم من الشعب ومساندة برلمانية كافية، وضعية دولة الحق والقانون والمؤسسات، في إطار ملكية دستورية ديمقراطية واجتماعية مبنية على أساس التوازن في الحكم والقرار».

1998. «فضلت بقاء البصري في الحكومة بدل أن يتلحق بالديوان الملكي»
«الواضح أن المصالح المتراكمة لا بد أن تجعل نوعا من البشر يستفيد من هذا الإرث، فنحن لا نستغرب أن تلك الجيوب (المقاومة) موجودة ولها أثر سياسي، واشتغلت وحاولت وضع كل العراقيل، ولكنها لم تفلح في إفشال تجربة التناوب التوافقي. فمنذ أن اختار الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نهج النضال الديمقراطي، والمشاركة في جميع الاستحقاقات المحلية والتشريعية، كان إدريس البصري يهيمن على ما أطلق عليه “أم الوزارات” أي وزارة الداخلية، التي كانت لها اليد الطولى في تزوير الانتخابات وفي صنع أحزاب إدارية قبل أي استحقاق لتحتل المراتب الأولى فيه. كان قدرنا في المعارضة، هو مقاومة هذا الأسلوب والتصدي له. (…) عندما اقترح علي المرحوم الملك الحسن الثاني، الاحتفاظ بإدريس البصري كوزير للداخلية في حكومة التناوب التوافقي لأن مجلس الأمن كان ينوي إجراء الاستفتاء في أقاليمنا الجنوبية، سنة 1998، ولكونه كان ماسكا بهذا الملف لأزيد من 15 سنة، فضلت أن يكون ضمن الطاقم الحكومي، بدل أن يلتحق بالديوان الملكي، ويصبح إذاك في موقع لن يتردد في استغلاله من أجل وضع عراقيل من شأنها تعقيد طرق الاتصال بجلالة الملك، وبالتالي عرقلة النشاط الحكومي. كان قراري أن بقاءه داخل التشكيلة الحكومية، يمنحنا فرصا أكثر لمواجهة أي محاولة من شأنها التأثير على البرنامج الحكومي. وهذا ما حصل فعلا، بحيث لم يعد يقوم بنفس الدور الأساسي والرئيسي الذي كان يعتقد أنه الوحيد القادر على إنجازه. (…) ورغم التعليمات التي أصدرت إليه من طرف جلالة الملك الحسن الثاني رحمه لله، بعد تعييني وزيرا أول، بواجب الدعم من أجل إنجاح هذه التجربة، إلا أنه وكما يقال، الطبع يغلب التطبع».

2002. تقديم الاستقالة بمجرد إعلان نتائج الانتخابات
«تم الإعلان عن النتائج الرسمية لهذه الانتخابات (2002) التي حصل فيها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على المرتبة الأولى خمسون مقعدا، وحصل التحالف الحكومي الذي قاد تجربة التناوب التوافقي على أغلبية مريحة من المقاعد. وبمجرد الإعلان عن هذه النتائج، التقيت صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وكان حاضرا أيضا في هذا اللقاء مستشاره المرحوم عبد العزيز مزيان بلفقيه، وعرضت على صاحب الجلالة تقديم استقالتي من الوزارة الأولى، حتى يتمكن من تعيين الوزير الأول الذي سيتولى تدبير المرحلة القادمة، لأن جلالته يعلم رغبتي في إعفائي من الاستمرار في تحمل هذه المسؤولية. غير أن جلالته فضل عدم تقديم الاستقالة حاليا. (…) يوم الأربعاء 9 أكتوبر 2002، ترأس صاحب الجلالة محمد السادس مجلسا وزاريا بمدينة مراكش، وكان آخر مجلس وزاري لحكومة التناوب التوافقي. بعد ذلك المجلس استقبلني جلالته، وأثنى على المجهودات التي بذلتها خلال الفترة الزمنية التي قضيتها على رأس الوزارة الأولى، سواء في عهد والده المرحوم الملك الحسن الثاني، أو خلال العهد الجديد، بالرغم من الحالة الصحية التي لم تحل دون إنجاز العديد من المشاريع الكبرى التي شهدها المغرب خلال هذه الفترة. وأضاف جلالته: «وفي العديد من المرات عبرت عن رغبتك في إعفائك من هذه المسؤولية، نظرا لظروفك الصحية، وقد قررت تعيين إدريس جطو على رأس الوزارة الأولى». شكرت جلالته على تلبية هذه الرغبة، وعبرت له أن الدستور الحالي (1996) يمنحه حق تعيين من يشاء كوزير أول، ولكن المنهجية الديمقراطية تقضي بتعيين الوزير الأول، من الحزب الذي احتل المرتبة الأولى في عدد المقاعد البرلمانية، كما أسفرت عنها الانتخابات التشريعية الأخيرة وهو حزب الاتحاد.
(…) شهد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نقاشا واسعا حول المنهجية الديمقراطية، وبالضبط، بشأن الاستمرار في الحكومة المقبلة أو العودة إلى صفوف المعارضة.
(…) وفي الأخير، فوضت اللجنة المركزية اتخاذ القرار المناسب للمكتب السياسي. وأنا، بصفتي كاتبا أول للحزب آنذاك، وكوزير أول تم إعفاؤه من مهامه بمقتضى قرار ملكي، كان علي أن أعالج الأمور، مع مراعاة المصلحة العليا للوطن ورصيد حزبي وتضحياته، وكذا طموحات الاستمرار في إتمام المشاريع التي أطلقتها حكومة التناوب، من قبل الإخوة الذين كانت لديهم رغبة في تحمل المسؤولية… ولم يكن من خيار، سوى أن أتركهم لمواصلة المشوار… ومع ذلك، وانسجاما مع هذا الوضع، وعلى ضوء نتائجه، تحملت مسؤولية القرار المتخذ من طرف المكتب السياسي».

إسماعيل بلاوعلي

 

اقرا أيضا

عبر عن رأيك

الآن تيفي

المزيد


استفثاء

ما هي نوعية المواضيع االتي تفضلون قرائتها على موقعكم شيشاوة الآن

التصويت انظر النتائج

جاري التحميل ... جاري التحميل ...